30 سبتمبر 2025 | 8 ربيع آخر 1447

رئيس مجلس الإدارة: دعاء رجب
رئيس التحرير: سماح منير

أحاديث المقاهي: ما الذي تغيّره الشاشات في حياتنا؟

بوابة النائبات

إذا جلست اليوم في أي مقهى تونسي أو عربي، لن تجد الطاولات كما عهدتها قديماً. الشاشات الصغيرة والكبيرة تسيطر على المشهد، من هواتف ذكية إلى شاشات التلفاز وأجهزة الحاسوب.

هذه الأدوات لم تعد مجرد وسيلة ترفيه، بل أصبحت جزءاً من لغة التواصل اليومية. تغير شكل الحديث، وتنوعت المواضيع، وأصبح كل شخص يحمل عالماً افتراضياً بين يديه حتى وهو يجلس وسط أصدقائه.

في هذا المقال، سنرصد كيف غيّرت الشاشات علاقاتنا الاجتماعية داخل المقاهي. سنسأل عما فقدناه من حميمية اللقاء، وما ربحناه من معارف واهتمامات جديدة في عصر التكنولوجيا.

الشاشات بين العزلة والتواصل: مشهد جديد في المقاهي

منذ سنوات قليلة، لم يكن من المعتاد أن تجد كل شخص في المقهى منشغلاً بهاتفه أو حاسوبه المحمول.

اليوم، تغير المشهد بشكل واضح. صار من الطبيعي أن تجلس مع مجموعة أصدقاء لكن ينشغل كل فرد بعالمه الرقمي، يرد على الرسائل أو يتابع آخر المستجدات عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

هذا التحول صنع حالة جديدة تجمع بين العزلة والتواصل في آن واحد.

البعض يجد في الشاشات متنفساً للهرب من الضجيج، بينما يعتبرها آخرون وسيلة للتقرب وتبادل الأخبار الفورية.

حتى مواضيع النقاش تغيّرت. لم يعد الحوار يدور فقط حول الرياضة أو السياسة، بل أصبحت موضوعات مثل الألعاب الإلكترونية وتجارب الكازينوهات التونسية تتصدر الجلسات خاصة مع سهولة الوصول إليها عبر الإنترنت.

في كثير من الأحيان تلاحظ مجموعات تتابع مباريات أو نتائج مباشرة عبر الشاشة الصغيرة وسط ضحك وتفاعل، بينما يغرق البعض الآخر في لعبة إلكترونية جماعية تجمعهم افتراضياً رغم جلوسهم إلى نفس الطاولة.

ومع هذا الانفتاح الرقمي، أصبح لكل فرد مساحته الخاصة حتى وسط الزحام، وهو ما يعيد رسم علاقات جديدة بين رواد المقاهي—بين الاندماج والعزلة الرقمية.

كيف غيّرت الشاشات ديناميكية الحوار الاجتماعي؟

وجود الشاشات في المقاهي لم يؤثر فقط على طريقة الجلوس أو ترتيب الطاولات، بل قلب موازين التفاعل الاجتماعي رأساً على عقب.

لم يعد الحوار محصوراً بين الأشخاص وجهاً لوجه، بل دخلت الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية لتقتطع من حضور كل فرد وتعيد توزيع الانتباه بين الواقع والعالم الافتراضي.

هذا التحول انعكس أيضاً على نوعية الأحاديث وعمقها، وحتى على مفهوم الصحبة نفسه، إذ أصبح الكل يتساءل: هل نحن فعلاً معاً أم أن لكل منا عالماً خاصاً خلف شاشته؟

تشتت الانتباه بين الواقع والافتراضي

من المشاهد المتكررة اليوم أن يجلس الأصدقاء حول طاولة واحدة، لكن تركيز كل منهم مشتت بين حديث المجموعة والهاتف الذي لا يكف عن الإشعارات.

أصبح الانغماس في العالم الرقمي جزءاً من الروتين اليومي داخل المقهى. هذا الأمر يؤدي إلى فقدان بعض التفاصيل الصغيرة في الحوار وفجوات في التواصل يصعب ردمها لاحقاً.

حتى النقاشات المهمة أحياناً تفتقد للسخونة والتفاعل الحقيقي لأن الجميع منشغل نصف الوقت بعالم آخر غير الموجودين معه فعلياً.

مواضيع جديدة على طاولة النقاش

لم تعد الأحاديث تدور حول السياسة أو الرياضة فقط. التطبيقات الجديدة، آخر ألعاب الهاتف وأخبار الإنترنت اقتحمت مجالس المقاهي بقوة.

أحياناً يضيء هاتف أحدهم بإشعار حول لعبة مشهورة أو فيديو متداول فينقلب مسار الحديث كلياً إلى موضوع رقمي قد لا يدوم أكثر من دقائق ثم يختفي ليُستبدل بموضوع آخر سريع الزوال.

هذه السرعة جعلت جلسات المقاهي أكثر تنوعاً لكن أقل عمقاً، وكأن هناك حالة سباق دائم لمواكبة ما يحدث أونلاين دون التوقف للتأمل أو النقاش المطوّل كما كان سابقاً.

إعادة تعريف مفهوم الصحبة

وجود الشاشات غيّر فكرة “اللمة” في المقهى. فحتى لو كان الجميع حاضرين بأجسادهم، تجد الذهن مشتت بين محادثة هنا وإشعار هناك.

البعض بات يرى اللقاء وسيلة لتبادل المعلومات الرقمية أو مشاركة مقاطع وصور بدل تبادل الحكايات والتجارب الشخصية وجهاً لوجه.

هذا الواقع الجديد يطرح سؤالاً صريحاً: هل ما زالت الصحبة تعني الحضور الفعلي أم أن المعنى تغير ليشمل التواصل الرقمي حتى أثناء اللقاءات الواقعية؟

الشاشات والثقافة الشعبية: بين الترفيه والتأثير القيمي

لم تعد الشاشات مجرد وسيلة لتمضية الوقت في المقاهي، بل أصبحت نافذة مفتوحة على عوالم جديدة من الثقافة والرأي.

صار للبرامج والمسلسلات والمنصات الرقمية دور واضح في تحديد اهتمامات رواد المقاهي، وحتى طريقة تفاعلهم مع الأحداث اليومية.

هذا التحول لا يؤثر فقط على كيفية قضاء الوقت، بل يمتد ليغير أنماط الحوار والسلوك ويعيد رسم القيم التي تجمع مرتادي هذه الفضاءات.

تأثير البرامج التلفزيونية والمنصات الرقمية

كل جلسة مقهى اليوم قد تتحول بسهولة إلى نقاش حول مسلسل جديد أو حلقة مثيرة من برنامج شهير.

بفضل الشاشات المحمولة، لم تعد متابعة هذه الأعمال تقتصر على البيت؛ المشاهدة الجماعية صارت جزءاً من حياة المقهى اليومية.

هذا التغيير أثر حتى على لغة الحوار، حيث أصبح تداول المصطلحات الدارجة في المسلسلات أو التعليق على أحداثها شائعاً بين الأصدقاء.

في بعض الأحيان، تفرض المنصات الرقمية ذوقاً موحداً وتخلق موجة اهتمام جماعي بمواضيع لم تكن مألوفة سابقاً في المقاهي التونسية والعربية.

الألعاب الإلكترونية وتغيير نمط الترفيه

من المعتاد اليوم أن تجد مجموعة شبان في أحد أركان المقهى منشغلين بهواتفهم يلعبون معاً لعبة إلكترونية شهيرة.

الجلسة التي كانت تدور حول تبادل الحديث والضحك أصبحت أحياناً مشهداً لمنافسة افتراضية تجمع بين الحماس والتحدي.

بالنسبة للبعض، توفر الألعاب متعة جديدة وتعزز التواصل عبر روح الفريق أو التنافس؛ بينما يرى آخرون أنها تعمق العزلة وتحرم الجلسة من دفئها التقليدي.

بلا شك، أعادت الشاشات تعريف مفهوم التسلية الجماعية داخل المقاهي، بين خلق صداقات جديدة أو تكريس الانشغال الذاتي لكل فرد على حدة.

التحديات النفسية والاجتماعية في زمن الشاشات

مع تزايد حضور الشاشات في حياتنا اليومية، باتت المقاهي مسرحاً لتغييرات عميقة في العلاقات الإنسانية.

صحيح أن الشاشات تقرّب المسافات وتمنحنا مصادر ترفيه لا محدودة، لكنها أيضاً تفرض ضغوطاً نفسية واجتماعية يصعب تجاهلها.

أبرز هذه التحديات تتجلى في الإدمان الرقمي وفقدان الحميمية، إضافة إلى ضعف مهارات التواصل الواقعي.

تتطلب مواجهة هذه التحديات وعياً جماعياً وحرصاً على تحقيق التوازن بين العالم الافتراضي والحياة الاجتماعية الحقيقية.

الإدمان الرقمي وتأثيره على المزاج

الجلوس الطويل أمام الشاشات أصبح عادة شائعة داخل المقاهي، حيث ينشغل الكثيرون بهواتفهم لساعات دون انقطاع.

هذا السلوك قد يتحول تدريجياً إلى إدمان رقمي يؤثر سلباً على المزاج ويزيد من مستويات التوتر والعزلة النفسية.

لاحظت شخصياً كيف يتغير الجو العام عندما يغرق أحد الأصدقاء في هاتفه وينفصل عن المجموعة حتى وهو بينهم جسدياً.

التوازن ضروري لأن الإفراط يسرق اللحظات البسيطة التي تمنح لقاءاتنا طابعها الإنساني والمرح اليومي.

تراجع مهارات التواصل الوجهي

مع اعتماد الأغلبية على الرسائل النصية والتطبيقات للدردشة، بدأت لغة الجسد وتعبيرات الوجه تفقد قيمتها وسط الأحاديث اليومية.

صرت ألاحظ صعوبة البعض في التعبير عن مشاعرهم مباشرة أو قراءة ردود فعل الطرف الآخر وجهاً لوجه داخل المقهى نفسه.

يصبح التواصل محصوراً بكلمات مقتضبة أو رموز تعبيرية رقمية، فلا تعويض حقيقياً عن دفء الصوت أو نظرة العينين بين الأصدقاء.

هذه الفجوة تهدد نوعية العلاقات وتضعف الروابط الاجتماعية التي كانت تتميز بها جلسات المقاهي التقليدية خاصة في تونس والمغرب العربي.

البحث عن التوازن بين العالمين

أمام إغراء العالم الرقمي وحضور الشاشات الدائم على الطاولات، تزداد الحاجة اليوم لإيجاد توازن واقعي يحفظ روح اللقاء والتواصل الحقيقي.

الكثيرون باتوا يخصصون وقتاً محدداً للهاتف خلال الجلسة ثم يضعونه جانباً لاستعادة أجواء النقاش الحي والضحكة الجماعية.

في تجارب محلية ببعض المقاهي القديمة بالعاصمة تونس مثلاً، وضع أصحاب المحلات لافتات تشجع الزوار على غلق هواتفهم ساعة واحدة والاستمتاع بالحديث المباشر وكأس القهوة التقليدية دون مشتتات رقمية.

نصيحة: جرب تخصيص وقت خالٍ من الشاشات مع الأصدقاء مرة أسبوعياً ولاحظ الفرق في جودة الحوار ودفء العلاقة الإنسانية الحقيقية.

خاتمة: هل يمكن للمقاهي أن تستعيد روحها؟

رغم حضور الشاشات القوي على طاولات المقاهي، يبقى هناك حنين واضح لأيام كانت الأحاديث المباشرة تجمع الجميع دون وسيط رقمي.

الكثيرون ما زالوا يبحثون عن لحظات تواصل صافية بعيداً عن الإشعارات والانشغال الافتراضي، خاصة عندما يتعلق الأمر بذكريات الطفولة أو القصص القديمة التي لا تكتبها لوحة مفاتيح.

لا شك أن استعادة روح المقاهي تتطلب جهداً مشتركاً من روادها، عبر التقدير المتبادل لأهمية الحوار وخلق مساحات خالية من الشاشات ولو لساعات قليلة.

ربما لن تختفي الشاشات تماماً، لكن بإمكاننا إعادة تعريف علاقتنا بها لتظل المقاهي فضاءً للدفء الإنساني والتبادل الفكري العميق.